الفصل الخامس: النفس والمادة
إن العقيدة ليست في يد الإنسان بحيث يحصل عليها أو يتركها، فهي عميقة في أغوار اللاشعور لإنها ناتجة عن إيمان قوي والمراس الطويل والان غمار الذي لا يخامره شك أبداً.
إن اللاشعور لا يعرف التمييز بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ. ولكنه عقل اليقين والعقيدة.
إن التنويم المغناطيسي يؤدي إلى إخماد قوى العقل الظاهر وجعل العقل الباطن فريداً في الميدان. ولا فرق في هذا سواء أكان التنويم ذاتي أم غيرياً.
فسحر العيون هو نوع من التنويم المغناطيسي يحدث على الإنسان من غير أن يشعر به ففيه يكون النائم مدركاً لكل ما يحدث حوله ولا تبدو عليه أعراض غير إعتيادية. ولكن قابل ته للإيحاء تكون شديدة فيقوم الساحر بالإيحاء للحاضرين بأنهم يشاهدون أشياء معينة في ونها واضحة وهي في الواقع غير موجودة.
توصل راين إلى إن النفس البشرية تستطيع أن تؤثر في المادة الخارجية بدون واسطة حسية. ورغم أنه أثر ضعيف جداً لا يفوق معدل الصدفة الا بمقدار قليل جداً، ولكن هذا لا يعني أن كل الناس سواء في هذا التأثير، بل يختلفون قوة وضعف بالنسبة لما يملكون من تفاؤل وتلقائية وإعتقاد.
بالمنطق القديم كانوا ينتظروا إلى الأمور نظرة جدية والمقارنة بينها على أساس العاكس بين النفي والإثبات. فتوصف قوة من القوى إنها قادرة أو عاجزة عن إنتاج أثر معين. وننسى طبيعة الظروف المتشابهة التي قد تجعل قوة صغيرة أحياناً أقدر من قوة كبيرة على إنتاج ظاهرة من الظواهر.
إن عوامل الكون كثيراً ما تكون متوازنة توازناً حرجاً. ولهذا فقد تأتي عليها قوة ضئيلة جداً فتحدث فيها انقلاباً مذهلاً للعقول.
كذلك يمكن أن يفسر "الحسد" (إصابة العين) بأنها الأمواج الكهربائية التي تبثها النفس من وراء العين على الناس، وهذه الأمواج الفتاكة لا تؤثر في جميع الأفراد على سواء. ولكنها تصيب من يعتقد بها. فتؤدي فيه أثر متسلسل في أعصاب الضحية فتطرحه أرضاً.
معظم الناس يعتقدون بأن هواجس النفس وخوالجها لا تؤثر في الأشياء الخارجية تأثيراً محسوساً. فهم يتشاءمون ويتفاءلون ويحزنون ويفرحون غير مدركين بأن هذه الانفعالات النفسية قد تأثر في الأحياء والجمادات المحيطة بهم قليلاً أو كثيراً وأحياناً تؤدي نتائج غاية في الأهمية.
لعل كثير من أولى الحظوظ السيئة قد جلبوا سوء حظهم على أنفسهم بأيديهم لأنهم يراقبون الحوادث ولا يتوقعون منها إلا الشر. مما يجعل تعرضهم للحوادث السيئة بنسبة أكبر مما يتعرض لها المتفائلين والمنشرحين.
إن توقع الخيبة لا يجلب الخيبة دائماً ولكنه يزيد من معدل ظهورها.
أما أولي الحظ الحسن فله مقدرتان. هما صفاء الذهن وثقته بنفسه وإعتقاده بنجاحه يستطيع أن يؤثر في الأمور تأثيراً يوجهها في سبيل مصلحته قليلاً أو كثيراً. أما الأمور التي يعجز عن التأثير فيها، يعالجها عن طريق الحدس أو التنبؤ والتكيف ليبتعد عن الخسارة ويقرب من الربح. وهو يفعل ذلك لا شعورياً.
إذاً ليس هناك حد واضح بين الوهم والحقيقة والوهم كثيراً مما يؤدي إلى خلق الحقيقة. فإذا توهمت شيئاً وأعتقد بوجوده كان بحكم الموجود في آثاره المختلفة. أما الحقيقة الموجودة فعلاً فقد لا تكون ذات أثر في الحياة العملية حين يجهل الإنسان وجودها ولا يعترف بها.
إن الوهم والحقيقة في تصارع مرير منذ خلق الإنسان. والإنسان قد يفضل الوهم على الحقيقة في بعض الأحيان. لأنه وجد من الوهم فائدة كبيرة واتخذ منه سلاحاً ماضياً كافح به معلمات الحياة.
إن الاعتقاد الجازم ينفع الإنسان في نواح كثيرة. وقد يضره في نواح أخرى. ومشكلة هذه الحياة أنك لا تستطيع أن تجد فيها شيئاً ينفع من غير ضرر أو يضر من غير نفع - في كل حين.
إن الاعتقاد يبعث الثقة في الإنسان يوحي إليه بالنجاح والشفاء والطمأنينة، ولكنه في نفس الوقت يمنعه من ممارسة الحياة ممارسة واقعية حكيمة ويجعله أميل إلى اعتناق السخافات والأباطيل منه إلى مواجهة الحقائق المرة.
إن لكل من العقليتين، الفطرية والمدينة، محاسنه ومساوءها. فالعقلية الفطرية تمد الإنسان بالاعتقاد الراس والثقة التي لا حد لها من جهة، وتجعله ميالاً لتصديق الخرافات والأباطيل من الجهة الأخرى. أما العقلية المدنية فهي تجعل الإنسان أضعف إيماناً وأقل خرفةرفي آن واحد.
إن الإنسان المدني يؤمن بالقوانين الطبيعية التي تجري على نسق واحد في كل زمان ومكان، وهو يعتبر هذه القوانين "غير شخصية" إذ هي تسري في نظره على جميع الناس من غير تفريق. وهذا التفكير العلمي هو الذي جعل المدني قادراً على اكتشاف أسرار الطبيعة وحل كثير من رموزها. فقبض بيده زمام المادة ولكن زمام النفس أفلت من يده في الوقت نفسه، فهو واقعي حكيم بعيد النظر، وهو قلق متردد أيضاً.
والنادر من الناس من جمع بين حكمة التفكير المدني من ناحية، ويقين التفكير الفطري من ناحية إخرى.
تعليقات
إرسال تعليق